يوم في جنبا، القرية الفلسطينية الصغيرة التي توشك أن تصبح منطقة تدريب عسكري شاسعة للجيش الإسرائيلي
الكاتب: جدعون ليفي، نشر للمرة الأولى في الخامس من تموز، 2013 صحيفة هآرتس
كتلتان إسمنتيتان مقلوبتان رأسا على عقب على جانب الطريق الوعرة التي تنحدر إلى الوادي الجميل هي التي تشكل العلامة الحدودية التي تبدأ منه منطقة إطلاق النار 918 الخاصة بالجيش الإسرائئيلي، لكن لم يكتب على الكتل الاسنتية في هذا المكان سوى عبارة: “سأمنا من الاحتلال”. وعند نهاية المنحدر في قلب الوادي تقع القرية الصغيرة الجميلة جنبا. تبدو وكـنها شيء من الإنجيل، وهي عبارة عن مجموعة من الخيام، والسقائف، وحظائر الأغنام، والكهوف التي لا تتصل بخطوط الكهرباء وشبكات المياه، أو بالأحرى لا تمت بصلة إلى القرن الواحد والعشرين، ولا إلى أي مظهر من مظاهر العدالة والمساواة. إنها مكان طالما عانى سكانه لعقود تحت نير الاحتلال. ويحيط بالمكان من كل جانب بحر من المستوطنات منها ما هو “قانوني” ومنها ما هو “غير قانوني”.
محكمة العدل العليا في دولة الاحتلال ستقرر بتاريخ الخامس عشر من تموز ما إذا كان هؤلاء الناس المتشبثون بأرضهم بكل صلابة – سكان جنبا البالغ عددهم قرابة 250 نسمة – سيسمح لهم بالبقاء في قريتهم، أم أنهم سوف يقتلعون منها (وعلى الأرجح سيعودون إليها لاحقا) كما حدث خلال عملية التشريد الكبرى عام 1991. السبب المزعوم لعملية التشريد المحتملة هو تحويل هذه الأرض الجرداء إلى منطقة تدريب عسكرية جديدة لجيش الاحتلال، أما السبب الحقيقي فهو تطهير هذه المنطقة من كافة سكانها الفلسطينيين.
كل ما يجري هنا يدمي القلب: الجدران الحجرية القديمة، والحمير تنهق تحت وطأة حرارة الصحراء، والنعاج والماعز تتزاحم في الحظيرة بحثا عن مكان تستظل فيه، والمدرسة الصغيرة التي بنيت بتبرع من منظمة إسلامية مقرها الولايات المتحدة، والمغارات المعتمة التي يعيش فيها أهالي القرية، والخيمة البيضاء التي تأوي العيادة الطبية التي أقيمت قبل أسبوعين بمساهمة من جمعية خيرية إيطالية ومن وزارة الخارجية الإيطالية.
مشهد الخيمة يدمي القلب أكثر من المشاهد الأخرى، فليس فيها سوى بضعة كراس يغطيها الغبار، وسرير مستشفى يعلوه الغبار كذلك، وطاولة مخصصة للأطفال الرضع. يأتي إلى هنا من حين لآخر طبيب من بلدة يطا. طواقم الإدارة المدنية التي تحافظ على النظام والقانون في المنطقة وصلت إلى هنا هذا الأسبوع لتوثيق المكان، وتوجيه الأسئلة، وإخافة وتهديد السكان، وربما يكون ذلك مقدمة لإصدار أمر هدم بحق هذه الخيمة الممنوعة. ولا حاجة للتذكير بان بيوت المستوطني جميعها وطرقاتهم وكروم عنبهم وحقولهم تصنف ضمن منطقة إطلاق النار 918 في أرض المغارات في تلال الخليل الجنوبية.
ذهبنا هذا الأسبوع إلى جنبا عبر الطريق المتعرج الوعر في جيب عزرا ناوي أحد النشطاء من مؤسسة تعايش وهي منظمة فلسطينية إسرائيلية غير ربحية تعنى بالشأن السياسي. ولولا وجود عزرا وأمثاله من نشطاء تعايش المخلصين أصحاب العزيمة الصلبة، ومعهم المحامي شلومو ليكر المتطوع منذ زمن، وكذلك نشطاء منظمة حاخامات من أجل حقوق الإنسان، ومنظمات كسر الصمت الذين يعملون في المنطقة ليل نهار، لولا هؤلاء لكانت عملية التطهير العرقي قد تمت منذ زمن بعيد. أعضاء هذه المنظمات هم “الإسرائيليون الطيبون” في تلال الخليل الجنوبية.
ناوي كان يعتمر كوفية بدوية كالتي يلبسها بدو سيناء، وكان يخشى أن تصادر سيارة الجيب لأنه كان يقودها في منطقة يحظر الدخول إليها. حرص زميله جاي بوتافيا على أن نربط أحزمة الأمان في المقعد الخلفي كذلك حتى لا نعطي ذريعة أخرى للجيش الإسرائيلي لمضايقتنا وهم على وشك الظهور في أية لحظة.
وفي الطريق المقابل لنا كان جرار زراعي يشق طريقه بصعوبة بالغة، وتعود ملكيته للراعي خليل يونس الذي كان أربعة من أبنائه قد أصيبوا بجروح خطيرة قبل بضع سنوات جراء انفجار جسم من مخلفات الجيش، وقد توفي أحدهم متأثرا بجراحه فيما بعد. كان يونس وقتها ينقل بعض الماعز إلى يطا.
توقنا عند نقطة مرتفعة لنطل على المنطقة فشاهدنا من هناك خيمة الحاج إسماعيل الراعي العجوز الذي كان قد تعرض للضرب على يد المستوطنين قبل بضعة أشهر، ويومها زرناه في منزله. كما شاهدنا الأنبوب المطاطي الذي ينقل كمية قليلة من الماء إلى جنبا من صهاريج على تلة مجاورة. كانت الصهاريج قد ثقبت عدة مرات على يد المستوطنين. واستطعنا كذلك أن نرى الآبار التي أغلقتها الإدارة المدنية الإسرائيلية وكذلك المنازل المهدمة. وليس بعيدا من هناك صادرت الإدارة المدنية قبل أسبوعين حمامين مخصصين لذوي الإعاقة.
كل شيء يبدو ممنوعا هنا ما عدا أبراج المياه التابعة لمستوطنة أفيجال، وكروم العنب التابعة المستوطنة سوسيا، وبركسات الأبقار في مزارع مستوطنة ماعون، وسقائف مستوطنة لوسيفر، ومنازل مستوطنة متسفي يائير التي من الواضح أن أحدا لا يعترض على وجودها.
بدت جنبا ما الجبل وكأنها مجموعة نقاط صغيرة لا يتعدى عددها أصابع اليدين في الأرض المقفرة البدائية غير المأهولة. من الصعوبة بمكان أن تصدق كيف أن دولة تستطيع أن تشن حربا طويلة الأمد على هذه الأرض المقفرة، فالطريق المؤدية إليها ليست طريقا، والقرية ذاتها ليست بقرية حقيقية وفق المفهوم الحديث المألوف للقرية. بعض السكان يقيمون في يطا في موسم الجفاف عندما لا يتوفر المرعى للنعاج والماعز في جنبا.
“جنبا ترحب بالزوار” عبارة كتبت على لافتة متواضعة عند المدخل. بمبادرة من مؤسسة “كسر الصمت” زار المنطقة في الأسبوع الماضي مجموعة من الكتاب الإسرائيليين، كان من بينهم زرويا شالي، وأيال ميجد، وألونا كمحي، وسيد كاشوا.
“الحياة هنا ليست طبيعية” هذا ما قاله لنا أحد السكان، مضيفا “الاحتلال يقرر كل شيء”.
المدرسة الجديدة في القرية والتي بنيت عام 2011 قد تكون أصغر مدرسة شاهدتها في حياتي. تتألف المدرسة من أربع غرف دراسية صغيرة في كل منها أربع أو خمس طاولات ويدرس فيها 35 طالبا. في الغرفة المخصصة للصف الأول والثاني الأساسي يوجد لوح وطباشير، وقد كتبت أيام الأسبوع على اللوح – تذكيرا بالدرس الأخير قبل بدء العطلة الصيفية. لم يكن الماء موجودا في الحنفيات المخصصة للشرب، وبالطبع لم يسمعوا يوما بالمكيفات أو المراوح هنا. ملعب االمدرسة عبارة عن أرجوحتان و مزلجة تحت وطأة الحر دون أي مظلات. ورغم كل ذلك فكل شيء كان يدل على التفاني والحرص.
قبل قرابة عام صادر الجيش الإسرائيلي سيارة المعلمين الذين يأتون إلى المدرسة من يطا. وفي الشتاء الماضي احتجز الجيش الإسرائيلي ثلاث سيارات جيب وثلاث دراجات نارية رباعية العجلات كانت قل سكان القرية بما فيهم الأطفال إلى بيوتهم. أوقفهم الجيش عند الساعة الخامسة مساء، ولم يطلق سراحهم إلاّ عند الساعة الثالثة فجرا بعد أن أمضى الأطفال وآباؤهم وأمهاتهم كل ذلك الوقت واقفين تحت برد الشتاء.
من بين الذين احتجزوا آنذاك أحد سكان جنبا وهو حمزه الربعي الذي قال إنه لن ينسى تلك الليلة التي انتهت بمصادرة أربع مركبات. وجاء في أمر المصادرة الذي أصدره الجيش: “بحكم صلاحياتي التي يخولني إياها الفقرة 80، وبناءً على تعليمات أمنية فقد استوليت على السلع المذكورة هنا. سبب المصادرة: القيادة في منطقة إطلاق النار 918 بين متسفيه يائير وجنبا.” وكان قد أرفق بالأمر العسكري رقم هاتف “للاستيضاح”، كما “خربش” عليه توقيع الضابط المسؤول بصورة غير قابلة للقراءة.
أجبر أصحاب المركبات فقراء الحال على دفع 20,000 شيكل من أجل استرجاع مركباتهم بعد شهرين وبعد أن خاضوا معركة قانونية بمساعدة محام ساعدهم دون مقابل بالطبع. أما سيارة المعلمين فلم يستعيدوها بعد إلى جانب سيارتين صودرتا في وقت آخر وتعود ملكيتهما إلى الطبيب البيطري وطاقم دائرة البيطرة في المحافظة الذي كان قد قدم لمعالجة النعاج والماعز.
وفي غضون ذلك صادرة وحدة من الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء سيارة أحد الحاخامات. أما المستوطنين فلا يخطر على بال أحد أن يصادر أي شيء منهم لدى دخولهم منطقة إطلاق النار. أحد السكان أطلعنا على مقطع فيديو في كاميرا قدمها المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة بتسيلم يظهر فيه مجموعة من المستوطنين كانوا قد قدموا إلى منطقة بير العد قبل حوالي أسبوعين. تزامن قدومهم مع توزيع أكياس طحين تبرعت بها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وعمل المستوطنون على تفريق الناس الذين اصطفوا من أجل الحصول على الطحين.
هكذا هو الحال في أرض النار، ووحدها المحكمة العليا قد تكون قادرة على إنقاذ تلك الأرض.