الانتظار: جنبا، الحادي عشر من كانون الثاني 2017
كتابة النصوص: مارجريت أولين. تصوير د.م. و أ.و

“آه، كل الأشياء تأتي لأولئك الذين ينتظرون”
(كلمات أقولها كي تجعلني أبتهج)
لكن ثمة ما يجيبني برقة وصوت حزين:
“إلاّ أنها غالبا ما تأتي بعد فوات الأوان”
ماري. م. سينغلتون كوري (فيوليت فين)
كنت أفهم الانتظار من وجهة نظري على أنه معقد ودقيق.

في حزيران من العام 2016 شاركت في معرض بعنوان “غرف الانتظار في التاريخ” وذلك في كونستفيرين في مدينة بادربورن الألمانية، كما حضرت مؤتمرا مثيرا في الجامعة هناك حول “الانتظار كممارسة ذات علاقة بالثقافة”. كان في المعرض صور التقطتها ستيفاني شولتز لأناس ينتظرون منذ سبعة أعوام وما زالوا ينتظرون في مخيم للاجئين في ألمانيا كان يفترض أن يقيموا فيه بصورة مؤقتة. أما الأطفال الذين صورتهم بنفسي في مخيم الدهيشة للاجئين فجميعهم ينتظرون منذ لحظة ولادتهم، وكذلك الحال بالنسبة لمعظم آبائهم وأمهاتهم.
ثمة ميزات حسنة للانتظار حين لا تكون هناك نهاية في الأفق المنظور. أما الانتظار في ظل وجود موعد محدد لصدور قرار نعلم أنه قد يكون إيجابيا أو سلبيا، وندرك أننا لن نستطيع أن نفعل شيئا بعد صدوره فقد يكون الأمر أسوأ، وخصوصا حين ندرك إمكانية أن يكون القرار سلبيا. في تشرين الثاني جلست مع جمهور من المغتربين والزائرين ننتظر نتائج الانتخابات الأمريكية عبر شاشة التلفاز. أنا أفهم جيدا مثل هذا الانتظار، فعندما تقترب اللحظة التي تثير الرهبة في النفوس يتجمهر الناس على نحو فطري ويحملقون في الشاشات، ويزداد الانفعال كلما اتضحت معالم الأمور.

لذا عندما اقترح ديفيد أن نذهب إلى جنبا في اليوم الذي كان من المقرر أن تصدر المحكمة العليا الإسرائيلية قرارا مهما سيكون له كبير الأثر في حياة القرية، اعتقدت أنني كنت أفهم ما سوف أواجه.
يراودني أحيانا شعور بأننا جميعا ننتظر، فلكل وضع ولكل موقع طريقة خاصة فريدة من نوعها تختلف عن غيرها في سرعتها وفي إيقاعها. في تلال جنوب الخليل وحدها أشكال متعددة من الانتظار: فالمستوطنون ينتظرون ظهور المسيح ا كي يثبت صدق قوميتهم التي في الكتاب المقدس، فيما ينتظر عيد ونعمة من القرية البدوية أم الخير أن يمر يوم الأربعاء المروّع بسلام وهو اليوم الذي تجري فيه عمليات الهدم، إذ يذهبون إلى عملهم وهم يخشون أن يعودوا فلا يجدوا أثرا لبيوتهم. أما الفتاة أ.و فتنتظر التقلب السحري في فصول السنة في قرية جنبا – فهي في الشتاء تستمع إلى أصوات المطر، وفي الربيع ترى الأرض تموج في حلتها الخضراء، وفي الصيف يتحول كل شيء إلى اللون الأصفر– كل شيء يصبح ذهبيا. (جنبا السحرية. تأليف أ.و). وبدورهم ينتظر الفلاحون تغير المواسم كي يتسنى لهم أن يحرثوا ويفلحوا أرضهم، فيما ينتظر العمال التصاريح التي تتيح لهم أن يخرجوا للعمل في إسرائيل، وفي طريقهم إلى أماكن عملهم ينتظرون في طوابير طويلة على نقاط التفتيش. أما نصر الذي يسكن في سوسيا فيحظر عليه دخول إسرائيل لأنه يعمل مع منظمة حقوق الإنسان بيتسيلم وهو بدوره ينتظر اليوم الذي يستطيع فيه أن يزور يافا برفقتي. ننتظر أن ينتهي الاحتلال. الانتظار يتطلب عزلة، وعجزا، وحدسا، وأحينا يتطلب أملا – د.م.
***
في وقت مبكر في قرية عيد أم الخير جنوب الخليل.

نلتقي عيد في هذا المكان كي يصحبنا إلى جنبا.

القرار الذي نحن نتوقع صدوره اليوم على قائمة الانتظار منذ عشرين عاما. يتعلق القرار بسكان قرابة عشر قرى في منطقة جنوب الخليل في الضفة الغربية، وتقع هذه القرى في منطقة مسافر يطا، أو ما تطلق عليها إسرائيل “منطقة إطلاق النار 918”. ومناطق إطلاق النار هي مساحات يخصصها الجيش الإسرائيلي للتدريبات العسكرية. وفي العادة يستطيع الجيش أن يصادر أراض لهذا الغرض دون أن يقدم تعويضات لأصحابها. أقام الجيش منطقة إطلاق النار 918 في سبعينيات القرن العشرين بعد احتلاله الضفة الغربية. يوجد في المنطقة حاليا العديد من القرى الفلسطينية الواقعة في ما يسمى منطقة “ج” الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية بالكامل حسب اتفاق أوسلو، ويا له من حظ عاثر أن تكون قرية محاطة بمنطقة إطلاق النار هذه، وأي توترات يجلبها مثل هذا الموقع. إذا كانت قريتك في منطقة إطلاق نار فهذا يعني أن الجيش قد يداهم في أي وقت ويجبرك وعائلتك على إخلاء منازلكم لساعات أو أيام كي يجري “تدريبات” على أرضكم. ولو أضفنا هذه المصاعب لمجمل أشكال المعاناة التي تتعرض لها كل قرية واقعة في مناطق “ج” كعدم توفر الكهرباء والخوف المستمر من اعتداءات المستوطنين، فستكون الحياة في مناطق “ج” أكثر توترا منها في أية بقعة في فلسطين تحت الاحتلال.

ورغم صعوبات وتوترات الحياة في منطقة إطلاق النار حاليا، إلاّ أن قرار المحكمة العليا قد يجعل الأمور أسوأ بكثير، إذ قد يذهب قرار المحكمة إلى حد السماح للجيش بإزالة كافة القرى الموجودة في منطقة إطلاق النار بشكل نهائي، وطرد سكانها. ومما لا شك فيه أن تلك القرى وأراضيها قد تؤول إلى المستوطنات الإسرائيلية القريبة منها، فأراضي قرية جنبا على سبيل المثال سوف تستولي عليها مستوطنة متسبي يئير وهي بؤرة استيطانية موصولة بشبكات الكهرباء والمياه ويتمتع سكانها بوفرة في المياه والكهرباء رغم وضعها غير القانوني حتى حسب القانون الإسرائيلي. كانت قد صدرت أوامر إخلاء بحق القرى الفلسطينية عام 1999، غير أن منظمات إسرائيلية تعنى بالحقوق المدنية ساعدت السكان في الاعتراض على تلك الأوامر، وآلت الأمور إلى المحاكم بطريقة أو بأخرى منذ ذلك الوقت أي منذ قرابة عشرين عاما. اقتضت الحاجة أن يسافر بعض سكان المنطقة إلى القدس لحضور جلسات المحاكم، وقد توجه نشطاء إسرائيليون لمساندتهم. أنا وديفيد طلب منا الذهاب لحضور الجلسات، غير أنا آثرنا أن نقدم الدعم لقرية جنبا ذاتها. كان الاتفاق أن نصل في الصباح الباكر لتقييم الحالة النفسية للسكان، والتواجد لحظة إعلان الحكم لنعيش التجربة.
نحن الزائرين الثلاثة في الواقع ننتظر ونستغل انتظارنا في التحدث إلى بعضنا البعض أو إلى أي من مضيفينا إذا كان لديهم متسع من الوقت.



لكن ليس لديهم الكثير من الوقت، وعليهم القيام بأعمالهم الروتينية


وإعداد الشاي لتقديمه للضيوف الذين يرغبون أن يتعلموا كيفية إعداد الخبز المسطح (شراك).

كل الأماكن في فلسطين جميلة جداً، وأنا أحب بلادي كلها كثيراً. لكن كل شخص فينا لديه مكان مميز يجد فيه الأمان والسكينة، والحرية. كل هذه الأشياء والكثيرغيرها أنا أشعر بها في قريتي في المسافر.
أجمل شيء في المسافر هو شروق الشمس الذهبي، عندما تستيقظ النساء لتقوم بإعداد الخبز والشاي على النار في طوابيهن من أجل الإفطار، إنها لرائحة جميلة يجتمع حولها أفراد العائلة لتناول الطعام معاً.
أ.و

كثيرة هي المواضيع والمشكلات التي يمكننا مناقشتها كالزواج، والتعليم، وفرص العمل، وقليل منها مرتبط بشكل مباشر بإسرائيل أو بالاحتلال.

تصادف وصولنا مع الاستعدادات للعيادة الأسبوعية، حيث تأتي الدكتورة نبال من بيت أمر لتقديم المساعدة الطبية.

معظم الحالات التي نستقبلها اليوم من الأطفال، ومن بينهم ولد صغير يعاني من قصور في النمو. الدكتورة نبال تهتم بأمره كثيرا وتروي لنا بعض التفاصيل حول العلاجات التي يمكن أن يتلقاها.

إحدى الأمهات سمحت لي بتصوير لقاء عائلتها العلاجي.





في وقت معين خلال النهار، ولا أذكركم كانت الساعة، وصل الخبر.

في كثير من الأحيان أسأل نفسي عن معنى كلمة المَسافر، فأنا أخمن كثيراً من المعاني لهذا الاسم، فلربما هي كلمة تصف سكان تلك المناطق اللذين يتنقلون من مكان لاخر، فمن الممكن أنها تعني وبكل بساطة “المُسافر”.
انا لا أهتم كثيراً بالإسم بل أهتم بالتاريخ، والأرض، والناس، وبالحياة هناك.
المَسافر ليست قرية واحدة فقط، بل هي مجموعة من القرى الصغيرة ، كل واحدة من هذه القرى تحل موقعا استراتيجيا، موقع مثالي للمزارعين، ولأغنامهم ولكل الثروة الحيوانية هناك.
يوم بعد يوم نحن نواجه الجدارالإسرائيلي الفاصل، ذلك الجدار الذي يقف حاجزاً بيننا وبين أهدافنا وأحلامنا.نحن على يقين بأن هذا الجدار سوف يزول قريباً بمشيئة الله، وسيتحرر كل شبر من أرض فلسطين. – أ.و
لم يكن هناك ما يدعو للاستغراب حين جاء الخبر بأن المحكمة أجلت النظر في القضية. أعطيت الدولة مهلة لإعداد مقترح جديد لمنطقة إطلاق النار. ربما يكون أفضل خبر يمكن لنا أن نتوقعه، فهو على الأقل يعني وقف التنفيذ مؤقتا. وسوف تستمر القضية بالتدحرج ومن يدري فربما بعد أن يزول الاحتلال – كما ينبغي له – ربما تظل قرية جنبا في مكانها هنا أو على الأقل في مكان قريب.
***

وفي نهاية المطاف غادرنا برفقة عيد وسافرنا عبر تلال جنوب الخليل حيث توقفنا لزيارة إبراهيم في سوسيا والذي يعمل في مشروع الأرشيف الحي، والتقينا الطفل الذي كان إبراهيم يباهي به أمام جمع من الأصدقاء. وفي المساء وجدنا أنفسنا في منزل عيد في قرية أم الخير. لم يسبق لي ان رأيت منحوتاته، وكانت فرصة ليريني العديد منها بعد عودتها من معرض في برلين مؤخرا برعاية الفنان التشكيلي الصيني آي ويوي.

وبعد ذلك كانت سيارتنا المستأجرة تشق طريقها في الظلام عبر منحدر أم الخير الوعر.

منذ عقود وأهالي قرية جنبا يتعرضون للتهديد بالطرد مرارا وتكرارا، وهذه ليست مجرد تهديدات بلا جدوى، وعندما توضع حيز التنفيذ – كما حدث آخر مرة عام 1999- فإنها تخلف جراحا عميقة. هذا التاريخ يحدد المفهوم السائد للانتظار في منطقة لإطلاق النار. في الولايات المتحدة قد ينتظر في يوم محدد المرء حدوث ما لا يمكن تخيله، أما هنا فباستثناء فترات قصيرة أثناء حدوث ما لا يمكن تخيله، أو بعد حدوثه، وأثناء الانشغال في البحث عن مكان آخر لبناء بيت آخر دون ترخيص، يبقى المرء في حالة انتظار دائمة. في أي وقت يشاؤون يستطيع المستوطنون أو الجيش أن يشنوا الهجمة ويشنوها بالفعل، ويطردوا الجميع، ويتركوهم بلا مأوى مع آبائهم من كبار السن، وأطفالهم الصغار، ويصادروا حيواناتهم وأمتعتهم، ويهدموا بيوتهم سواء كان ذلك بقرار من المحكمة العليا أو بدون قرار. وبالنسبة للكثيرين فقد حدث ما لا يمكن تخيله بالفعل بما يكفي لجعله يبدو وكأنه نمط حياة. وأي فرق قد يحدثه موعد نهائي جديد آخر لدى أناس منهمكين في أعمالهم الروتينية يطعمون أغنامهم، ويحاولون إيصال أطفالهم للطبيب، ويستقبلون ضيوفهم؟ ولماذا يمضون وقتهم في انتظار رسالة شؤم بينما يمكنهم اليوم أن يمنحوا طفلا الفرصة للنمو؟
حاشية: لقد أثرتي في الأذهان يا مارجريت السؤال القائل: ما الفرق بين الانتظار والصبر؟ بعض أشكال الانتظار ينقصها على ما يبدو نوع من الطاقة، أما الصبر فيبدو بأنه عملية الانتظار وكأنه وسيلة توصل إلى غاية، أو شكل محسوب من أشكال الانتظار يعرف متى يرد بالمثل، ويعرف متى يشن هجوما معاكسا، ومتى يدع الأمور تمر دون اكتراث. ولست أدري ما إذا كانت مهمات الحياة اليومية في تلال جنوب الخليل كبقاء المرء على أرضه، وهي أمور قد تبدو دنيوية أو مبتذلة، لا أدري إن كانت هذه تقع تحت إطار الانتظار أم الصبر إلى حين اللحظة المناسبة لاستعادة الكرامة والحرية. د. م.
الصور والنصوص مقدمة من مارجريت أولين ما عدا تلك التي يشار أدناها إلى غير ذلك. شكر خاص لديفيد ماسي لكل ما قام به من أشياء في كل المراحل.
اثنان من المشاهد يعودان إلى كانون الثاني 2017 من تصوير د.م. وهما:

عملية الهدم في أم الخير

درس في إعداد الخبز في جنبا. تصوير ديفيد ماسي.