
عمر محمد جندية
مقابلة مع عمر من قرية طوبا (2016).
النص
اسمي عمر محمد أحمد جندية، وعمري 48 سنة. يمكن القول إنني ولت في خربة التواني هنا. تم تهجير أجدادنا وآبائنا منذ عام 1948، فوالدي قدم من منطقة القريتين وسكن في سوسيا عاما واحدا، ولكن لأن الماء لم يكن متوفرا في تلك المناطق كما هو متوفر اليوم لم يعجبهم العيش في سوسيا فانتقلوا إلى هنا إلى خربة التواني، وكان فيها بئر ماء فيه نبعة وهذا ما شجعهم حيث كان الماء متوفرا وفي متناولهم، وكان في البلد متسع للأغنام والحيوانات حيث لم يكن في المنطقة مستوطنون ولا غيره. سكننا في التلة قرابة 29 عاما وقد ولدت أنا في التلة التي يوجد عليها الآن مستوطنة تدعى “خافات ماعون”. لم تكن الأرض ملكا لنا وبعد 29 عاما وقع خلاف بيننا وبين أصحاب الأرض، وكان والدي قد اشترى أرضا في هذا المكان هنا في عهد الأردن فحفرنا هذا الكهف وكهفا آخر في المنطقة وانتقلنا للعيش هنا عام 1979. لم أغادر هذه المنطقة يوما واحدا منذ ولادتي عام 1967. هذه المستوطنات أقيمت عام 1982 وقبل ذلك لم نكن نرى المستوطنين ولم نكن حتى نعرف اليهود، ولكن منذ بناء هذه المستوطنة ونحن نواجه المشاكل، في حين لم نكن في السابق نخشى على أغنامنا ولا على ممتلكاتنا، أما بعد قدوم المستوطنين فالراعي يعيش في خوف وطالب المدرسة يعيش في خوف، والسكان في بيوتهم يعيشون في خوف، بمعنى أن ظروفنا صعبة للغاية.
الجميع هنا يعتمدون في معيشتهم على الثروة الحيوانية وعلى الزراعة وعلى أشياء بسيطة ينفقون منها على عائلاتهم. عام 1997 هدموا هذه الخرب وكانوا يسلمون إخطارات لكافة الخرب الموجودة في المناطق السفلى. لم نكن نرى موظفي التنظيم ولم يسبق أن أتوا إلينا، وفي عام 1997 أتوا فجأة وهدموا هذه الخربة بالكامل ولم يتركوا حجرا في مكانه، ولم يبق سوى هذه المغارة التي نحن فيها الآن لأنه كان فيها كمية من الحبوب ولم يتمكنوا من إخراجها. فيما عدا ذلك لم يتركوا جدارا ولا حجرا في مكانه ورغم ذلك بقينا هنا. بعد ذلك بدأنا ببناء الخربة من جديد واسغرق ذلك سنتين. ثم تحدثنا مع محامين، ولم أقابلهم بنفسي لكن شقيقي إبراهيم قابل محامين في بيت لحم واستطاعوا أن يحصلوا على أمر احترازي مدة سنتين. لم ألبث أن أكملت بناء الخربة حتى عادوا من جديد وسلمونا إخطارات عام 2000. لم تكن حظيرة الأغنام جاهزة فجاؤوا في أواخر عام 1999 أو بداية 2000 واعتقلوا شقيقي إبراهيم أسبوعا في معتقل المجنونة، ثم عادوا إلينا وأصروا على أن نرحل من الخربة. على مدى أكثر من أربعة أيام كان الجيش يأتي إلينا ويطالبنا بالرحيل، وأخيرا جاء ضابط وهددنا بتفجير كل المساكن إذا لم نرحل. قال إننا إذا انصعنا لأوامره ورحلنا فقد نستطيع ان نعود من خلال محام، أما إذا رفضنا الخروج فسوف يهدمون الخربة. انتقلنا من هنا إلى خربة التواني وأقمنا فيها أربعة أشهر. لم نكن وقتها نعرف شيئا عن المحامين، وكان موسى الشيخ يعمل مع لجنة الدفاع عن الأراضي فإذا به يحضر فتيات ومحاميات من جماعات حقوق الإنسان فأعطيناهم كل ما لدينا من مستندات تثبت ملكية الأرض، والتقينا بهن عدة مرات في الخليل، وبعد ذلك تم ترحيل كافة سكان الخرب في العام نفسه حيث رحلنا نحن في شهر تشرين ثاني وبقية الخرب في فصل الربيع أي في شباط تقريبا حيث كانت نبت الزرع. المحامي شلومو ليكر ترافع عن الخر السفلية وعنا نحن ترافع نيتع عمر. بعد أن أمضينا أربعة أشهر في التواني عدنا إلى الخربة بعد أن حكمت المحكمة لصالحنا. أخبرونا أنه يحظر علينا إقامة منشآت جديدة كما يحظر علينا الرحيل لأننا إذا رحلنا لن يسمح لنا بالعودة. بقينا في المنطقة ثم اندلعت انتفاضة عام 2000 وبدأنا نواجه مشاكل مع الطريق وبعد عام 2002 منعنا المستوطنون من استخدام هذه الطريق نهائيا رغم أنها موجودة قبل قدوم المستوطنين وكانت تخدم جميع الخرب. هذه الطريق وطريق المشخة كانت تخدم كافة الخرب السفلية.
استولى المستوطنين عليهما آملين أن يخرج الناس من بلادهم لكن الناس فعلوا المستحيل حيث أصبحنا نستخدم طرقا التفافية تصل إلى 15 كيلومترا حتى نصل القرية. كان المستوطنون يعترضون طريق طلبة المدارس ويعتدون عليهم وعلى الرعاة، وكانوا يحتجزون الرعاة 24 ساعة أو أكثر ويفرضون عليهم غرامات تتراوح بين 1000 و 500 شيكل. كانوا يحتجزون الراعي ويفرضون عليه غرامة ثم يهددوه بغرامة أعلى قد تصل 2000 شيكل إذا عاد للمنطقة. كانت ظروفا صعبة للغاية، وفي عام 2004 أصبح يتوافد متضامنون أجانب وتحسن الوضع. في عام 2002 كان الطلاب يذهبون إلى مغاير العبيد ويقطعون مسافات طويلة تصل إلى 10 كيلومتر لكن عندما جاء المتضامنون وجماعة “تعايش” صاروا يتفهمون الوضع وتدارسوا أوضاع الطلبة ويرافقوهم إلى المدرسة. لقد تعرض الطلاب للضرب عدة مرات وهم برفقة المتضامين وكانوا يعتدون حتى على المتضامنين. بعدها أثار المتضامنون الأجانب ضجة أدت إلى تخصيص دورية عسكرية لمرافقة الطلاب.
منذ عام 2004 حتى اليوم يذهبون إلى المدرسة بمرافقة الجيش. قبل ذلك كان تحدث مشكلات بين المستوطني وطلبة المدارس والجيش حيث المستوطنون يعتدون بالضرب حتى على الجيش. في طفولتي وكما تعلم كحال بقية الأطفال كنا نقلد كبار السن ونتقمص دورهم في لعبنا. كانت عائلاتنا تربي الأغنام والأبقار والجمال وفي صغري كنت انا وأقراني نتظاهر أثناء اللعب أننا نملك الأغنام وما إلى ذلك. ثم تطورت أوضاع الناس. كنا نعرف ما هي الكهرباء ولم نكن جهلاء تماما ولكن الانتقال من استخدام السراج الذي لا يكاد يضيء أمامه إلى استخدام الكهرباء كان نقلة نوعية وشيئا غريبا بالنسبة للسكان إذ كنا نعتقد أن من المستحيل وصول الكهرباء إلى هذه المناطق. وهذا ساع كثيرا أيضا في تصنيع منتجات الحليب فقد كانت المرأة تخض الحليب من الصباح حتى المساء أما الآن فتكفيها ساعة واحدة بفضل الكهرباء. كنا نخرج للعمل ونعود في المساء والمرأة لا تزال منهمكة في خض الحليب، أما الان فتستخدم الكهرباء في الخض وفي غسل الملابس أيضا. لكن رغم ما كان ينقصنا في السابق كانت الحياة أفضل فلا مشاكل مع المستوطنين ولا غيرها. كنا نعيش بهدوء ولا نفكر سوى في أنعامنا وأغنامنا ولا نهتم بالسياسة وغيرها. كان أفراد العائلة يجتمعون من حين لآخر. لم تكن الهواتف متوفرة فكنا حين يخرج البعض للعمل لا نتواصل معه فنظل قلقين حتى يعود، بخلاف هذه الأيام حيث تستطيع أن تتواصل هاتفيا وتعرف متى سيعود وإن كان سيتأخر. كان آباؤنا وأجدادنا يخشون على أغنامهم من الضباع والوحوش، وأذكر أن وحشا كان يهاجم الأغنام ويقتلها هنا في التلة. لم يكن الناس يخافون على أنفسهم بل على أغنامهم وثرواتهم الحيوانية.
كانت هناك حكايات عن الضباع مثل حكاية أبو صبحة “شلاش” الذي كان صاحب دكان في منطقة القريتين. يحكى أنه عاد في ساعة متأخرة من الليل إلى القرية، وعند منحدر العرقوبة كان ضبعا يتربص به فبال الضبع على ذنبه ورش البول على الرجل فأسبح يسيطر عليه ذهنيا. كان الضبع يستدرجه كي يأكله، فسار الضبع والرجل يسير وراءه حتى وصل جحر الضبع ولحسن حظه عندما هم بدخول الجحر خلف الضبع ارتطم رأسه بالصخر فسال دمه ثم أفاق من سيطرة الضبع وأخذا يصيح مستغيثا بأمه وأبيه فهب الناس لمساعدته وكان لدى أحدهم بندقية فأخذ يطلق النار في الهواء حتى خاف الضبع من صوت الرصاص وهرب.
كانت أمي رحمها الله امرأة طيبة وكريمة وكان الجميع يحبونها. كانت كريمة وتحسن إكرام الضيف وكان الجميع يشيدون بمناقبها. مضى على موتها 29 عاما. أنجبت 10 أطفال أنا كنت آخرهم ولذلك كانت تحبني كثيرا. أما والدي فقد توفي عام 2000 أي قبل 16 عاما. أمي توفيت عام 1987 تقريبا. كما تعلم المرء يحب المكان الذي يترعرع فيه وأنا أحب هذا المكان ولا أطيق البعد عنه وحين أغادره إلى البلدة لا أشعر بالراحة ويصيبني الصداع، ولا أستعيد عافيتي إلاّ بعد أن أعود إلى هنا، لأنني عشت عمري كله في هذه المنطقة ولا أطيق فراقها ساعة واحدة.