علي محمد محمود الجبارين

علي محمد محمود الجبارين

مقابلة مع علي محمد محمود جبارين من قرية جنبا. (2016)

النص

بسم الله الرحمن الرحيم

أنا علي محمد محمود الجبارين من قرية جنبا، ولدت عام 1962 في جنبا ولم يكن الاحتلال الإسرائيلي موجوداً آنذاك.

عندما ولدت وفتحت عيوني شاهدت أمامي الأردن ولم يكن هناك إسرائيل. جائت الأردن عام 1967 وكنت وقتها طالباً في المدرسة، وعندما احتلت إسرائيل مناطق عام 1967 من الأردن كنت أستطيع المشي وشاهدت الجيش الإسرائيلي حيث كنت طالباً في المدرسة، ولم تكن دولة إسرائيل موجودة أساسا عندما ولدت عام 1962 بل كانت هناك الأردن، وفي عام 1967 جائت إسرائيل وكنت طالباً في المدرسة وأذكر أنني كنت في الصف الأول والله أعلم أي عندما جاءت إسرائيل كنت طالباً في المدرسة في الصف الأول.

في السنة الأولى كان اسم الأردن مكتوبا على الكتب المدرسية وكنت أدرس عن زمن الأردن، وعن الأردن، وفجأة جاءت إسرائيل حيث كانت الكتب المدرسية باللغة العربية ويكتبون عليها إسرائيل.

ولد أبي في هذه الأرض في مسافر يطا وتحديداً في خربة جنبا، وكان يعيش في جنبا ومناطق بئر العد حيث ولد عام 1940 وعاش حياته كلها في مسافر يطا التي كان يعشقها.

مسافر يطا منطقة واسعة جداً تبدأ من جبل رأس بئر العد ومرج ابن معيّد، وتمتد حتى تل عراد ومنطقة كسيفة ومدينة عراد التي أقيم فيها مستوطنة جديدة في الستينات، وتمتد الأراضي حتى البحر الميت ولها مسميات كثيرة من خرب وقرى متعددة تابعة لمسافر يطا.

في بداية الأربعينيات أو الخمسينيات جاء الإسرائيليون إلى هذه المنطقة واستولوا على جزء كبير منها وعلى الكثير من أراضينا في مسافر يطا حيث استولوا على قرية كبيرة ومهمة اسمها القريتين وهدموها، واستولوا كذلك على  بيوض ودريجات التي تتبع ليطا أيضاً وكان يسكنها عدد من العائلات أذكر منهم عائلة أبو زهرة، وأخرجوهم منها إلى مناطق تقع في حدود الضفة الغربية في مدينة يطا.

أرض عائلة أبو زهرة موجودة في دريجات كما توجد أراض لجميع أهالي يطا في مناطق دريجات وتل عراد، وهي أراض واسعة جداً وهذه الأرض التي أمامك هي منطقة بيوض والقريتين وهناك خلف الجبل تقع تل عراد ودريجات أيضاً، والقريتين قريبة من هنا وتحديداً إلى اليمين من خلفي، كما يوجد رجم المعيّد من خلفي أيضا،ً والمناطق الواقعة هناك تسمى بيوض ورويشدة، وهناك أيضا منطقة الطيّب ومناطق تسمى وادي الخليل ووادي الحوّر والحميرويّة والخضيرة وأم الجريش وخلة محمد والمغرقة وابن بسمة والجرف وأم الحيطان وكذلك اللحَجة وأم الجريش وأدرعيّة والقرضية وتل أصفر ومزرع الزير وأم ركبة وجورة السدرة وانخيبية  ووادي الحكر وشعاب النواجعة وشعاب الفقير والطبقات، وهي سميت بالطبقات لأنها واسعة جداً وتتألف من آلاف الدونمات وفيها أودية كثيرة، وهي أراض كانت مناسبة للفلاحة حيث كان يزرع فيها الكثير من القمح، وهناك أيضاً أم هاشم وزابوط زريق والدَحيّة وأم رَتّام وأم صٌوّانة والمجاز والفخيت والتّبان والحلاوة والمركز، وكذلك الصفَيّ التحتة والفوقة والثعلة وكذلك أم خروبة والمفقرة والتواني وشعب البطم وقواويس.

كل هذه المناطق مترابطة مع بعضها البعض وتقع جنوب شرق يطا وتسمى بالمسافر، وهذه الأرض لا تزيد عن 140 أو 150 ألف دونم منها 40 ألف دونم في مناطق 1967، وقرابة 100 ألف دونم استولت عليها إسرائيل وتمتد المناطق التي استولت عليها من مدينة عراد حتى حدود عام 1967 أي ما يقارب 10 إلى 11 كيلو مترا، كما تمتد المنطقة الواقعة من البحر الميت حتى حدود القريتين حوالي 35 إلى 40 كيلو مترا، وهي أراض واسعة جداً تبلغ مساحتها حوالي 100 إلى 110 آلاف دونم بقي منها 40 ألف دونم في أيدي المزارعين الفلسطينيين في الخرب التي ذكرتها وهي جنبا وبئر العدّ والمركز والحلاوة والفخيت والتبان والمجاز وصفي التحتة وصفي الفوقة والمفقرة وبقية الخرب التي ذكرتها حيث تبقّى لهم 40 ألف دونم، بمعنى أن ثلثي الأرض أو أكثر صودرت ولم يبق إلا الربع تقريباً، ولا تزال إسرائيل تلاحق هذه المنطقة وتريد إخراج أهلها أو أصحابها منها، وتتعرض جميع القرى والخرب الموجودة في مسافر يطا إلى مضايقات من الجيش والمستوطنين بهدف ترحيلهم من هذه الأرض، وطردهم إلى يطا أو إلى مدن أخرى ويطالب هذا الجيش والمستوطنون والمسؤولون بترحيل هؤلاء الناس.

لو عرضواعلي أن أنتقل إلى أجمل منطقة حتى لو كانت في فلسطين التي أحبها والغالية على قلبي أو حتى إلى تل أبيب فسوف أختار مسافر يطا، وأختار جنبا وهذه المناطق التي عشت فيها وهي مناطق بيوض والقريتين وتل أصفر والطيب وطبقة وأم رتام ومناطق وادي سيال، وهي الأجمل في نظري بحيث إذا دخلتها وكنت مريضاً فسوف أشفى، لأنها منطقة جيدة وأحبها جداً، وخصوصاً في فصل الربيع إذ تكون مسافر يطا الأجمل التي تمتمد من هنا حتى عراد والبقيعة التي هي من أراضي مسافر يطا، ولا يزال سكانها يعيشون فيها لكنهم يحملون الهوية الإسرائيلية.

أهل البقيعة هم في الأساس من مسافر يطا، وكذلك عرب الكعابنة في مناطقهم ومنها البوقة وغيرها، التي لا أعرف أسمائها رغم أنني تجولت فيها فهي أيضا تتبع لمسافر يطا، أي أن بدو الكعابنة أصولهم من يطا وهم يسكنون أم الخير وخشم الدرجة، بمعنى أن سكان يطا الأصليين هم من البدو والقبائل البدوية التي سكنتها قبل 200 أو 150 عاماً ثم انتقلوا إلى الأرياف وسكنوا في يطا بعد أن عاشوا في تلك المناطق، ومنهم الكعابنة وبدو الجهالين الذين يملكون الكثير من أراضي المسافر في وادي سيّال وفي أم ركبة وأم قيبرات وغيرها من المناطق التي تعود ملكيتها لبدو الجهالين، وهناك أيضا بدو الكعابنة وبدو الصرايعة وبدو الرشايدة إلى الغرب من بني نعيم أو بجوار بني نعيم.

خلاصة القول هذه الأراضي الممتدة من هنا إلى بني نعيم هي مسافر يطا ويعيش فيها هؤلاء الناس وهم قبائل بدوية ولا ننسى أن أهالي يطا كانوا سابقا قبائل بدوية تسكن الخيام.

يريدون الآن أن يعطوهم أموالاً وما يشاؤون، لكن الجميع والحمد لله يرفضون ذلك ويصرون على البقاء في أرضهم، ولا يريد أي شخص أن يغادر أرضه. هذه الأرض التي أقف فيها الآن هي أرضي ولن يخرج أحد منا من أرضه، فهدم البيوت ليس بالأمر الجديد فقد هدموا بيوتنا في الثمانينيات، وهذه المنطقة تعرضت في الحروب السابقة عام 1966 للدمار حيث دمرت هذه الخرب وأعاد أهلها بناءها وعادوا إليها، وفي الثمانينيات استمر التخريب وطرد جميع الناس من هذه المنطقة، ومنذ الثمانينيات وحتى عام 2000 أو 1999 كانت هذه المنطقة تتعرض لمضايقات كثيرة جداً لترحيل هؤلاء الناس، لكنهم ظلوا ثابتين في أرضهم ولم يخرجوا منها حتى اليوم، ومنذ الثاني من شباط هدموا ما يقارب 22 منزلا في جنبا والحلاوة والفخيت والتبان، وسلموا إخطارات جديدة في المركز والفخيت والمجاز وغيرها من الخرب.

بالنسبة لهذه المنطقة لو عدنا لأيام آبائنا وأجدادنا فإن أرضنا تمتد إلى مناطق عراد وكسيفة والبحر الميت، فأبي عاش في هذه الأرض مع أغنامه منذ عام 1940 وحتى وفاته العام الماضي وتحديدا في 18 كانون الأول، رحمه الله لقد  أمضى عمره أي 75 عاما ولم يتركها أبدا، ومن قبله جدي ونحن متواجدون فيما تبقى لدينا من هذه الأرض فقد أوصانا والدي أن نثبت في أرضنا، ونعيش كما عاش هو، ونموت فيها مثله تماما، وكان أبي قد تعرض لما هو أقسى مما نتعرض له اليوم، فقد أخذوا أغنامه أكثر من خمس مرات ووضعوها مرة في أريحا وأربع مرات أخرى في بئر السبع، واستعاد الأغنام بكفالة مالية وكانت المرة الأخيرة عام 2003 وتحديداً في 23 آذار، حيث صادروا 252 رأسا من أغنام والدي وذبحوها في مستوطنة “رحوفوت” التي يوجد فيها مسالخ إسرائيلية حكومية، ولكن وبحمد الله أحضرنا أغناما جديدة وعادت كما هي ونحن باقون في مكاننا، وكان أبي يقول “إذا سلم العظم فاللحم سيعود”، بمعنى أن كل شيء يمكن أن يعود كما كان، والصبر على الضيق سنة أو سنتين يأتي بعده الفرج، ونحن صامدون في أرضنا فكل هذه الأرض التي تشاهدها حولك هي ملك لنا ولأقربائنا من سكان جنبا والمركز، وبعدها الحلاوة أي أن كل منطقة أو خربة تحتفظ بأرضها الخاصة، وجميعهم والحمد لله يربون الأغنام ويعيشون سعيدين ونحن نطالب العالم ونقول لليهود أنفسهم  إن التجارب السابقة للإسرائيليين من هدم ومصادرة أراضي وأغنام وهدم للبيوت وتشريد للناس منذ عام 1967 حتى اليوم لم تأت بأي جديد وستذهب كل أعمالهم هباءً وبدون فائدة لأن الناس عاشوا في هذه الأرض، وخلقوا فيها ولن يخرجوا منها، وسيظلون فيها إن شاء الله.

نطالب العالم أن يقف إلى جانبنا لمنع الهدم في هذه المناطق، ومنع الإسرائيليين من الإقتراب من أرضنا. نحن أناس نطالب بالعيش في أرضنا دون مضايقات من الجيش والمستوطنين الذين أتوا إلى هذه المنطقة بعد الثمانينيات، فقد بدأت أعمال التجريف لبناء أول مستوطنة عام 1983 وهي مستوطنة “لاسيفر” و”سوسيا” وتبعها بعد ذلك مستوطنات أخرى في التسعينيات وما بعدها حتى عام 2000 تقريبا، ولم يقتصر الأمر على المستوطنات بل أقاموا مزارعا. وهاهم المستوطنون يبنون ولا أحد يهدم أبنيتهم إذ يبنون المستوطنات والبيوت والبركسات وفي بعض المناطق تكون بعض البركسات فارغة. لم يسبق للمستوطنين أن تلقوا أي إنذار. لماذا يهدم بيتي وأنا مزروع في هذه الأرض منذ مئات السنين بينما المستوطن الذي يأتي اليوم لا يهدم بيته؟

هم يعيشون في أمان وتوفر لهم الكهرباء والماء أما أنا فإذا حفرت بئرا جديدا يهدمونه، وإذا أقمنا شبكة كهرباء جديدة فإنهم يهدمونها ويصادرونها، بينما تتوفر الكهرباء والماء للمستوطن، وكذلك الطرق المعبدة، أما نحن فنستخدم طرقا ترابية. السفر من يطا إلى هنا يستغرق 40 دقيقة لكنهم على طرق المستوطنات الإلتفافية يقطعون مسافة 30 كيلو مترا من عصيون إلى هنا في 40 دقيقة، أما أنا فأقطع مسافة 12 كيلو متر في 40 دقيقة وهي المدة ذاتها التي يستطيع المستوطن أن يقطع فيها 40 إلى 50 كيلو مترا.

أنا أجيد حراثة الأرض أكثر منهم فالأجيال الجديدة تحب أن تبذر الحبوب بأقصى سرعة، ولا تجيد حراثة الأرض أما نحن فلا نكترث للسرعة، ونقضي ما يلزم من أيام في حراثة الأرض حتى لو استغرق ذلك اسبوعين أو ثلاثة.

ها هي الأعشاب الضارة كالخردل وغيره تملأ الأرض لأن الشباب هم الذين حرثوها، وهذه الأعشاب والأشواك لم تكن تظهر أيام المرحوم والدي ومن سبقوه. المزروعات اليوم مليئة بالأعشاب الضارة كالصفيرة والخردل والزهرة التي تراها أمامك وهذا نتيجة لقلة الاهتمام بالأرض.

كان أجدادنا يقولون إن الأرض تنتج محصولين حيث كانت تزرع سنة بالذرة، وسنة تزرع البقوليات، وسنة يزرع الشعير وأخرى يزرع القمح، أما اليوم فتجدنا نزرع الشعير لعشرة أو خمس عشرة سنة متواصلة، لذلك مهما كانت كميات الأمطار كبيرة يظل المحصول ضعيفا، وكانوا سابقا يستخدمون الأسمدة ونحن نستخدمها فذلك الزرع هناك يبدو أطول من غيره نتيجة الأسمدة التي هي من روث الأغنام، ويظهر مفعولها جلياً بينما المزروعات التي لم تزود بالأسمدة ظلت ضعيفة. كانت الأجيال السابقة تخدم الأرض أكثر من هذه الأيام فمن سبقونا خدموا الارض أفضل من جيلنا، ونحن نخدم أفضل من الجيل القادم وهذا هو الحال، بمعنى أن الأجيال الجديدة لا ترغب بخدمة الأرض كما ينبغي ويريدون أن ينجزوا كل العمل في يوم واحد دون أن يبذلوا جهداً، أما نحن فنعمل بأيدينا ونعمل كذلك في إسرائيل في مجال البناء دون كلل أو ملل، وتنهك أيدينا نتيجة حمل قضبان الحديد والباطون.

أما الأشخاص الذين لا يعملون بأيديهم كما هو حالك بالطبع ستكون أيديهم بيضاء، ولو أنني توقفت عن العمل لشهر واحد لأصبحت يدي بيضاء ناعمة، لكنني أعمل في الحديد والباطون أي الإسمنت الذي يؤذي اليدين وكذلك صدأ الحديد الذي يتغلغل إلي البصمات فيلتصق في الجلد ويعطيه هذا اللون الداكن، وهذه هي الحياة وهذا هو الشغل حيث أعمل في إسرائيل وعند العرب وفي أرضي، ولا أتوقف عن العمل ومعظم هؤلاء الناس يعملون في إسرائيل وفي كل مكان في مجال البناء وغيره، وكثير منهم حرفيون في مجال البناء لذلك تجد أيديهم على هذا الحال، أما الذين لايعملون فكما قلت تظل أيديهم ناعمة بعكس أيدينا التي تصبح خشنة بسبب العمل.

عندما أموت لا بد لأبنائي من العمل وهم حاليا يساعدوني في رعي الأغنام وفي جني المحاصيل الزراعية، لكنهم ليسو ككبار السن، وبعضهم يدرسون وأتمنى من الله لهؤلاء الصغار أن يحصلوا على تعليم أفضل من الزراعة. بالنسبة للحراثة والزراعة كان أهلنا مزارعون، فأبي كان رحمه الله مزارعا يحرث أرضا كثيرة ويزرع أرضا كثيرة، وكان يربي الأغنام وأنا تعلمت منه بالفطرة أن أعمل بالزراعة وتربية الأغنام، أما بالنسبة للعمل في إسرائيل فأبي لم يعمل في  إسرائيل. عندما كنت في السادسة عشر أو السابعة عشر كان جميع الناس من هنا يشتغلون داخل الخط الأخضر في حولون وتل أبيب واللد والرملة والقدس، فدخلت مثلهم واشتغلت وتعلمت أعمال البناء بأشكالها بالتالي فنحن تعلمنا البناء داخل إسرائيل في المناطق التي ذكرتها، أما الزراعة فهي مهنة قديمة تعلمناها من آبائنا وأجدادنا الذيم كانوا يفلحون الارض ويزرعونها ويربون الأغنام ومثلهم فعل آباؤنا ونحن كذلك، فالزراعة هي طبيعتنا وفطرتنا منذ البداية حيث وجدنا آبائنا على هذا الحال وهذه هي كل الحكاية، وهي حكاية مؤلمة جداً بالنسبة لنا في مسافر يطا، وللأسف في الثمانينيات لم تكن هناك وسائل إعلام ولا قنوات تلفزيونية ولا إذاعية لتتحدث عنا، أما اليوم فهناك وسائل إعلام وقنوات تلفزيونية وإنترنت وأشياء كثيرة تساعدنا لم تكن موجودة من قبل.

الأجيال السابقة كانوا أفضل منا وأفصح منا لسانا فأبي رحمه الله كان يجيد الحديث وكان يعرف أشياء كثيرة لا أعرفها أنا، وكذلك كان جدي وأعمامي وجميع الناس من أبناء المنطقة والخرب الموجودة الممتدة من القريتين حتى عرب الكعابنة، فكل مسن في هذه المناطق يستطيع أن يحدثك ويخبرك الحكايات التي تريدها عن حياته في هذه البلاد والحمد لله على كل حال.